بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وآل محمد

كلمة مختصرة في الزهراء عليها السلام

قلت فيما قلت في مدح الزهراء البتول سلام الله عليها :

إنَّ مَن كانَ ربُّها مُجْتَبيها       لِأبيها وبعلِها وبنيها

كيفَ باللهِ مَدْحُها وهيَ كانتْ      فوقَ هذي وتلكَ ” أمَّ أبيها “

هذه الكنية العجيبة التي أطلقها عليها حبيب الله المُصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم ماذا تعني ؟ إذ نحب أن يكون حديثنا حول ذلك في هذه النشرة المباركة [1].

هل تعني أنّ أباها كان مفتقراً للحنان ، وهيَ قد ملأت ذلك الفراغ في قلب أبيها ، كما ادّعى بذلك مَن ادّعى ؟

رُزِقها على رواياتنا وعمره الشريف يناهز الخامسة والأربعين ، وحتى على رواياتهم فالخامسة والثلاثين ، فهل عظيمٌ مثل محمد صلى الله عليه وآله يبقى ركيك الكيان ، لم يُشبَعْ من الحنان ، ولا زال يشعر به إلى أن جاءت له هذه البنت الكريمة لكي تملأ هذا الجانب ، و عليك إضافة عدة سنوات أخر حتى تقوم بهذه المهمة العظيمة ، والمدّعي الذي أطلقها ركّز على أيام المحنة الأولى ، في بداية الدعوة الإسلامية ، فما عمرُها آنذاك ، حتى تقوم بهذا الدور ؟

ونقول بدواً وسريعاً إنّ هذا القول آتٍ إمّا مِن قلّة العلم ، أو قلّة التدبر والفهم ، أو قلّة الإيمان ، إذ على الأخير سيكون هذا البيان من المحاولات الفاشلة لِغَمْط كرامات هذا العطاء العظيم من باريه ، الذي سمّاه ربُّه بالكوثر ، فهو معطاءٌ للخير في كل آن ، لِأنّ الجاهل يعلم ، فضلاً عن العالم : أنّ هذا المعنى معنى عامي لا يمكن أن يصدر من سيد البلغاء وعميدهم ، وهو القائل صلى الله عليه وآله وسلم : (( أنا أفصح مَن نطق بالضاد بَيدَ أني من قُريش.)) [2].

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام  :  (( وَ إنٌا لَأُمَراءُ الكلام ، وفينا تَنَشّبَتْ عُروقُهُ ، وعلينا تَهَدَّلَتْ أغصانُهُ . )) [3].

والزهراء قد فقدت أمها وهي صغيرة ، ، فهل هي تحتاج إلى الحنان أم هو ؟..الأب الذي تجاوز عمره الخمسين عاماً ، أم البنت التي لم تتجاوز الخامسة ؟

إن قلت هيَ الزهراء ، قلت لك هو محمد .

ومع كل هذا أين صارت تلك المرأة العظيمة ، فاطمة بنت أسد الذي صرّح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من واقعة بأنها كانت أمه ، بعد أمه ؟ [4].

ولمّا جاءه أميرُ المؤمنين عليه السّلام مضطرباً بعد ذلك بسنين سأله النبيّ صلّى الله عليه وآله عمّا به، فقال أمّي ماتت فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: وأمّي واللهِ، ثمّ بكى وقال: وا أماه.) [5].

فلاحظ قسم رسول الله صلى الله عليه وآله في الرواية وفكِّر فيه .

إذاً نجزم من أن هذا ليس مراداً ، بل المراد معانٍ أسمىً من ذلك بكثير ، يمكن أن نشعر به بالتدبر والتفكر في هذه الجملة العجيبة ، فهي ذات أبعاد عدّة .

نقول اختصاراً : أمّ كلّ شئ أصله وعماده [6].

إذاً فهذه العبارة كعبارته المتعلقة بالحسين عليه السلام حيث قال صلى الله عليه وآله : “حسين مني وأنا من حسين ” .

واختصاراً نقول : لولا وقوف الزهراء عليها السلام ذلك الموقف الصارم أمام أعداء الله ورسوله ، ودفاعها عن إمام زمانها ذلك الدفاع المستميت لانطفأ الإسلام ، وأصبح خبراً من الأخبار .

فهي التي أسّست وبنت ، إذ هي التي بيّنت الحق ، وعرّفتهم أهله ، لا بالقول وحده من وراء جُدُر ، بل بخطبتين بليغتين ، بقيَ ، ويبقى صداهما على مرِّ الأيام ، وتقادم الزمان ، ومزجت ذلك بالعمل ببكائها المستمر ليل نهار ، وبالأمر بدفنها ليلاً ، وبعدم السماح لأحدٍ ممّن اشترك في ظلمها أن يشهد جنازتها ، وبإخفاء قبرها ، ليبقى يصرخ في وجه التاريخ بمظلوميتها ومظلومية زوجها ، بل بمظلومية البشرية كلها ، ولولا ذلك كله لانطفأ نور الله .

إذ لولا ذلك لقتلوا علياً كما قُتل سعد بن عبادة ، بجنودهم مِنَ الجن .

بل لقتل كما قتل الحسين عليه السلام مع آل بيته جميعاً ولم يبق لآل البيت عليهم السلام من باقية .

فمن هنا كان منها ، بل هي أصله لأنه لولاها لمات دين الله ، وآل الله معاً بموته صلى الله عليه وآله .

فتدبّر في هذا كله تجد صدق الكلام ودقّته .

والأم المرجع والمجمع كما قال تعالى ” (( هُوَ الٌذي أنْزَلَ عَليكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحكَمات ٌ هُنٌ أمٌ الكتابِ  وَ أُخَرُ مُتَشابِهات )) [7].

 ومرجع المتشابه المحكم ، فلو رُجِع لها عند اختلاف القوم معها بادعائهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ” إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة .”

لظهر الحق من الباطل ، ولاستبان الصادق من الكاذب ، ولكنهم ابتعدوا عن سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله كما ابتعدوا عن كتاب الله ، وعترته .

ويمكن أن نضيف ونقول من أنه أراد أنْ يبين أنّ أصله هو الزهراء ، وبما أنه صلى الله عليه وآله يمثل الخلافة الحقيقية الكاملة والشاملة والتامة لله في الأرض ، التي من أجلها كان الخلق .

وقد قال الله تعالى : ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ” ، فهي إذاً الرحمة الأساسية ، وبها تتم الخلافة الحقيقية لله على الأرض ، إذ هي أسُّها وعمادها .

والأم للشئ هو الجامع له ، فهي الجامعة لخصال محمد صلى الله عليه وآله جميعها ، من رحمته إلى خلقه الرفيع بل وجوده المبارك الذي عبّر عنه ب” فاطمة بضعة مني ” ، فنعلم من هنا أنها أي بضعة ؟

وهذا كله يكون مفتاحاً لِفهم كثير ممّا جاء فيها مِن روايات شريفة لبيان مقامها . وهناك معانٍ دقيقة أخر ، كنا قدتعرضنا لها ، في خاتمة كتابنا ” الكوثر ” ، من أرادها فعليه به .

والحمد لله رب العالمين .

                        محمد حسين الأنصاري / سدني / أستراليا / أوائل ج1 / 1433هج.

[1]  بعض مصادر هذا الحديث :  بحار الأنوار  : ج 43 ، ص19 . / الاستيعاب في تمييز الأصحاب / أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري / ج2 / باب الفاء / فاطمة . ( . / مقاتل الطالبيين : 29 . /   المناقب لابن المغازلي : 340 ح / 392 .  / أُسد الغابة : 5 / 520 .  / تهذيب التهذيب: 12 / 440   . / تاريخ الطبري / وفي سنة إحدى عشرة من الهجرة … وتستطيع أن تقول إنّ كل كتاب يتعرض فيه لذكرها سلام الله عليها لابد له أن يزهو به فراجع .   

[2]  ذكره المتقي الهندي في كنز العمال 11 :404 |31884 ؛ رسائل الجاحظ / ج 1 / فصل في تفضيل النطق على الصمت .

[3]  نهج البلاغة .

[4]  الخرائج والجرائح /القطب الراوندي /ج1 /138 ؛ بحار الأنوار /ألمجلسي /ج35 /ص83 /الحديث 26 , سفينة البحار /7: 122 / مادة فطم . وغيرها .

[5]  البحار /ج35 /ص81 /ح 23  , خصائص الأئمة / الشريف الرضي /ص 65 .

[6]  لسان العرب / ابن منظور ؛ القاموس المحيط / الفيروز آبادي ؛ مجمع البحرين / العلامة الطريحي .

[7]  سورة آل عمران / سورة 3 – آية 7 .