كلمات في ايمان ابي طالب

آية الله الشيخ محمد حسين الانصاري

 

قال إبن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة تحت عنوان ” اختلاف الرأي في إيمان أبي طالب ” :

(( إختلف الناس في إيمان أبى طالب ، فقالت الإمامية وأكثر الزبدية : ما مات إلا مسلماً ، وقال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك ، منهم الشيخ أبو القاسم البلخي ، وأبو جعفر الأسكافي وغيرهما .

وقال أكثر الناس من أهل الحديث والعامة من شيوخنا البصريين وغيرهم : مات على دين قومه … )) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم الجزء الرابع عشر دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه . / ص65ـ66 .

ثم بعد أن استعرض دليل كلٍ ، قال : ((………وجملة الأمر أنه قد روي في إسلامه أخبار كثيرة ، وروي في موته على دين قومه أخبار كثيرة ، فتعارض الجرح والتعديل ، فكان كتعارض البينتين عند الحاكم ، وذلك يقتضى التوقف ، فأنا في أمره من المتوقفين . )) . المصدر السابق / ص82 .

ألا تعجب من أمر هذا الرجل ؟!

كيف لا يجرئ مع أنه يمدح أبا طالب بشعر حري به ، لا يجرئ أن يُخالف قومه ، ثمّ يقع في هذا الشبك الأصولي ؟!

فلو تمّ كلامه ، من أن الأمر كتعارض البينتين ، ففي مثله يكون التوقف ، وهو أول الكلام هنا ، إذ لا تعارض ، فرواية كفره مروية عن أبي هريرة ، وأبو هريرة قد أسلم بعد وفاة أبي طالب بأكثر من تسع سنين ، وعن صحابيين كابن عباس ، وقد كانوا في ذلك الوقت أطفالاً صغاراً ، فكيف تقبل روايتهم ، حتى مع صحة سندها ؟!

ولو سلمنا ، فما هو موطن التعارض ؟! يقع بين طائفتين من الروايات الطائفة التي تقول  أنه أسلم ، و أظهر كلمة الإخلاص وقالها ، والتي تقول إنه لم يقلها ولم يسلم ، بين هاتين الطائفتين فقط  يقع التعارض .

فحينئذٍ نتوجه للقرائن والدلائل الخارجية المحيطة به ، لنر أنه أسلم أم لم يُسلم .

كل الدلائل التي أحاطت بالرجل من كل مكان ، واتفق عليها الكل بلا تنازع ، كلها يشير بل يعين أنه كان مسلماً ، عالي الإيمان ، بل المؤمن الفذ لا يلحقه ، إلا من عصم الله ورفع درجاته إلى أعلى الدرجات .

ولو جاء بعضها لأي أحد من الناس لحكم بإسلامه ، فلماذا الإصرار على كفر هذا الرجل العظيم ؟!!!

ألأنه دافع عن نبي الإسلام بالخصوص وعن كثير من المسلمين عموماً ، بل عن الإسلام كله دفاع المستميت ، عندما كان الإسلام عوداً طرياً ، وكياناً ضعيفاً ، وهدفاً سهلاً لكثير من فراعنة قريش وطغاتهم ؟!!

أنظر مثلاً لقصة إسلام والد أبي بكر أبي قحافة كيف ينقلونها ، حتى مَن يصعد المنابر منهم :

 (( يوم فتح مكة أسلم أبو قحافة [ أبو سيدنا أبي بكر ]، وكان إسلامه متأخرا جداً ، وكان قد عمي ، فأخذه سيدنا أبو بكر وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه ، ويبايع النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‘ يا أبا بكر هلا تركت الشيخ في بيته ، فذهبنا نحن إليه ‘ .

فقال أبو بكر : لأنت أحق أن يؤتى إليك يا رسول الله .. وأسلم أبو قحافة.. فبكى سيدنا أبو بكر الصديق .))

لحدِّ هنا الرواية متطابقة فانظر للتغيير المتعمد ، أو لعدم المعرفة ، بعد ذلك :

(( فقالوا له : هذا يوم فرحة ، فأبوك أسلم ، ونجا من النار ، فما الذي يبكيك ؟

قال : لأني كنت أحب أن الذي بايع النبي الآن ليس أبي ، ولكن أبو طالب ، لأن ذلك كان سيسعد النبي أكثر ….

ـــ وربما يعلقون فرحين بهذا الكلم ــــ :

سبحان الله ، فرحته لفرح النبي أكبر من فرحته لأبيه ، أين نحن من هذا؟

ما رأيك في هذا الحب ؟!!!!!

حتى خطباؤهم ينقلون ذلك على المنابر من دون روية ولا معرفة .
وإليك الرواية كما جاءت بلا تلاعب ، لتجد ما يصنع القوم بأنفسهم :

لو رجعنا إلى المصدر لرأينا الرواية هكذا قد وردت ، وهي تدل على إيمان أبي طالب لا على كفره ، لو كانوا يفقهون ، ولذا أدرجها إبن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة في جملة الأدلة التي استند عليها مَن يذهب إلى إيمان أبي طالب ، لا إلى كفره ، فراجعْ ، ولكنهم لا يقرؤون :

وهذا ما رواه الطبراني ، والبزّار ، وابن عساكر من إسلام أبي طالب ، و إليك لفظ الأول :

8323 –  : حدثنا محمد بن علي بن المديني فستقة ، ثنا أبو عمر حفص بن عبد الله الحلواني ، ثنا بهلول بن مورق الشامي ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : جاء أبو بكر رضي الله عنه بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده ، شيخ أعمى يوم فتح مكة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ألا تركت الشيخ حتى نأتيه ؟ ” قال : أردت أن يؤجر ، والله لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحاً مني بإسلام أبي ، ألتمس بذلك قرة عينك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” صدقت ” . . المعجم الكبير / أبو القاسم سليمان بن أحمد المعروف بالطبراني / باب العين / من اسمه عثمان : عثمان بن عامر بن كعب بن سعد / ج 9 / ص 40/ح 8323 .

ـ وفي لفظ : أما والذي بعثك بالحقّ ما كنت أشدّ فرحاً بإسلام أبي طالب منّي بإسلام أبي .

ـ وفي لفظ : والذي بعثك بالحقّ لإسلام أبي طالب كان أقرّ لعيني من إسلامه ، وذلك أنّ إسلام أبي طالب كان أقرّ لعينك . أنظر : زوائد البزّار / ج 1 / ص 167 ؛ تاريخ دمشق /  ج 66 / ص 326 ـ 327 ؛ مجمع الزوائد / ج 6 / ص 174 ؛ وكذلك ديوان أبي طالب وأخباره / ص 154 / جمع علي بن حمزة البصري التميمي .

فإذا تمت هذه الرواية التي يستندون عليها لإثبات كفر أبي طالب ، هل تراهم يقبلونها لو قرؤوها بصحيح اللفظ ، إذ يجب عليهم حينئذٍ الإقرار بإيمان أبي طالب ، أم تراهم سيرفضون الرواية ؟!

هذا ما يحدث في كتابة تاريخنا مع الأسف الشديد .

وإليك بعض تلك الدلائل التي هي شاهد صدق على إيمان الرجل ، وسمو مقامه ، واحكم أنت بنفسك :

الدليل الأول : هذا أولاً فعلـُهُ وقولهُ قبل البعثة الشريفة :

يقول العلامة نجم الدين العسكري رحمه الله فيه ، إنهُ (( كان عالماً بأنه سيبعث الله تبارك وتعالى من بني هاشم نبياً ووصياً له ، وكان ينتظرهما طول حياته عليه السلام ، فلما منّ الله تعالى على خلقه وولدا في أشرف بقعة من الدنيا ، ومن أفضل والدين ، عرفهما ، وآمن بهما قبل كل أحد ، ولكن لمصلحة العصر والوقت ، ولأن يتمكن من حفظهما عليهما السلام ، وحفظ من آمن بهما أخفى عن الناس وعلى الأخص من كفار قريش إيمانه بهما ، ولم يتابعهما في العبادات التي كانا يقومان بها في الظاهر ، كل ذلك تقية ، أو اتقاء . )) . العلامة نجم الدين العسكري / أبو طالب حامي الرسول / ص4 .

أولاً : تفكّر في قوله عند ولادة رسول الله صلى الله عليه وآله :

فيما رواه الصدوق رحمه الله تعالى : (( عن محمد بن عبد الله بن مسكان ، عن أبيه ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : إن فاطمة بنت أسد – رحمها الله – جاءت إلى أبي طالب تبشره بمولد النبي صلى الله عليه واله ، فقال لها أبو طالب : إصبري لي سبتاً آتيك بمثله إلا النبوة ، فقال: السبت ثلاثون سنة ، وكان بين رسول الله صلى الله عليه واله و أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثون سنة . )) . معاني الأخبار / الشيخ الصدوق / ح68 / ص 403 .

ثانياً : وانظر لخطبته في يوم مجلس عقد زواج محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله من السيدة خديجة الكبرى ، قبل الإسلام بخمسة عشر عاماً تقريباً حيث قال ومعه بنو هاشم ، ورؤساء مضر :
” الحمد لله الذي جعلنا من ذرّية إبراهيم ، وزرْع إسماعيل ، وعُنصر مُضر ، وجعلنا حضنة بيته ، وسُوّاس حرمه ، وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكّام على الناس .
ثم إن محمد بن عبد الله ( إبن أخي ) من لا يوزن به رجل من قريش إلا رَجُحَ عليه براً وفضلاً ، وكرماً ومجداً ونبلاً ، فإن كان في المال قلّ .. فالمال ظل زائل ، ورزق حائل ، وقد خطب خديجة بنت خويلد ، وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا ، وهووالله – بعد هذا له نبأ عظيم ، وخطر جليل . “ . أنظر الخطبة : إبن أبي الحديد / شرح النهج / تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم  / الجزء الرابع عشر / دار إحياء الكتب العربية  / ط2 / ص70 ؛ والمستطرف في كل فن مستظرف /  الشيخ بهاء الدين أبو الفتح محمد بن أحمد بن منصور المحلي (852هج.) الأبشيهي / ج2 / ص249  / في النكاح وفضل والترغيب فيه / ط دار إحياء التراث العربي ، بيروت . وهذا ما نؤمن به من أن آباء الرسول صلى الله عليه وآله ، وعمه أبو طالب كانوا من الموحدين على دين الحنيفية دين إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا وآله السلام .

(( لأن الأخبار الصحيحة تبين بأن الكثير من العرب في الجاهلية ، كانوا موحدين ومؤمنين بالله الواحد ، وأشهرهم في هذا الأيمان بنو هاشم – عبد المطلب ، وأبو طالب ، وعبد الله والد النبي – ، حيث كانوا يعبدون الله عزّ وجلّ ، ويجتنبون عبادة الأصنام ، وينكرون ما كان أكثر العرب يعتقدون به )) .  سيرة ابن هشام / ج1 / ص 252  ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد/ ج1 /ص 120 ؛ المحبر / محمد بن حبيب البغدادي / 171.

الدليل الثاني : إذا كان كافل اليتيم على ما روى البخاري بمنزلة الرسول صلى الله عليه وآله ، إذ قال :

” أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وقال بإصبعيه السبّابة والوسطى . أي أشار بإصبعيه المضمومتين ”  فكيف بكافل محمد بن عبد الله سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وآله .؟!

فمن أحق منه بهذا الوسام ، إن لم يكن هو المقصود أصلاً من هذا الحديث ؟!

والكناية أبلغ من التصريح كما يعلم الجميع .

 الدليل الثالث :

ما جاء في التاريخ ، وهاك بعضه :
(( قال أبو طالب لعلي : ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟
قال : يا أبت ! آمنت بالله وبرسوله ، وصلّيت معه .
فقال ( أبو طالب ) : أما إنه لا يدعونا إلا إلى الخير .. فالزمه . )) . إبن الأثير / الكامل في التاريخ /  ج2 / ص38 ، ط 1387هـ ، بيروت
وذكر المؤرخ ابن الأثير الجزري :
إنّ أبـا طالب رأى النبيَّ ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ  وعلياً يُصلّيـان ، وعليٌ عن يمينه ، فقال لجعفـر (رضي الله عنه) : صِلْ جناح ابن عمك وصَلِّ عن يساره . وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه علي بقليل . كتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة / ج1 /  ص542 / ترجمة 759 ، ط بيروت .
فكيف يشجع ولديه على اتباع محمد صلى الله عليه وآله وهو لا يعتقد بصحة نبوته ، وهو لا يزال بعد في أول دعوته ، وهو العاقل الرشيد ؟!

الدليل الرابع : دفاعه المستميت عن رسول الله صلى الله عليه وآله :

وهاك بعضه : (( فُقِدَ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه ، فجمع فتيان من بني هاشم وبني المطّلب ثم قال :
ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد ، فلينظر كل فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية – يعني أبا جهل – فإنّه لم يغب عن شر إن كان محمد قد قتل !
فقال الفتيان : نفعل !
فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال .
فقال ( أبو طالب ) : يا زيد أحسَسْتَ ابن أخي ؟
قال : نعم ، كنت معه آنفاً .
فقال أبو طالب : لا أدخل بيتي أبداً حتى أراه !
فخرج زيد سريعاً حتى أتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو في بيتٍ عند الصفـا ومعه أصحابه يتحدثون ، فأخبره الخبر ، فجاء رسول الله إلى أبي طالب .
فقال : يا ابن أخي أين كنت ؟ أكنت في خير ؟
قال : نعم .
قال : أدخل بيتك ، فدخل رسول الله فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وآله فأخذ بيده ، فوقف به على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميون والمطّلبيون ، فقال :
يا معشر قريش ، هل تدرون ما هممت به ؟
قالوا : لا .
وأخبرهم الخبر وقال للفتيان :
اكشفوا عمـا في أيديكم ، فكشفوا فإذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة فقـال : والله لو قتلتموه ما بقيت منكم أحداً حتى نتفانى نحن وأنتم ، فانر القوم .. وكان أشدهم اناراً أبو جهل . ))   . ابن سعد الواقدي /  الطبقات الكبرى /  ج1 / ص135 ، ذكر ممشى قريش إلى أبي طالب في أمره ، ط1322هـ .
وانظر في حادثة أخرى : القرطبي / في تفسيره الجامع لأحكام القرآن / ج6  / ص405-406 / سورة الأنعام / 26  / ط 1405هـ دار إحياء التراث العربي ، بيروت  .

الدليل الخامس : شعره الذي ملأ الدواوين والكتب :

أتراه يقول فيه ما سيأتيك من أشعار إن لم يكن مؤمناً بنبوته ؟

نقول هذا لأنه لا يمكن أن يقول مثل هذه الأشعار سيدُ القوم ورئيسهم في صبيٍّ يافعٍ تابع ، أو ولد نافع مهما بلغ بهذا الولد السمو والرفعة ، وهو السيد العربي القرشي ، بل سيد العرب على الإطلاق ، وسيد قريش بالخصوص ، شيخ البطحاء ، ولم يكن من أوساطها أو ذنابيّها ، ولا من رؤسائها العاديين ، ونحن نشير إلى شعره الذي قاله في صبا محمدٍ صلى الله عليه وآله لا عند بلوغه والصدع برسالته ، وإن كان ذلك أيضاً من الشواهد الواضحة على إيمانه ، ولذا ذكرنا بعضه بعد ذلك .

فإذاً هو من أول الأمر يعلم ما لهذا الصبي من مكانة عند ربه ، بل مَن هو ، فتمعن في قوله :

مثل قوله :

وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجههِ  ثمال اليتامى عصمة للأراملِ

يطيف به الهلاك من آل هاشمٍ   فهمْ عندَهُ في نعمةٍ وفواضلِ

ثم بعد ذلك يقول :

ودعوتني وعلمت أنك صادق * ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
ولقد علمت بأن دين محمد * من خير أديان البرية دينا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا

ومنها :

لقد أكرمَ اللهُ النبيَّ محمداً * فأكرَمُ خلقِ اللهِ في الناس أحمدُ

وشقَّ لهُ من إسمه لِيُجلّهُ * فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ

أنظر : ديوانه المطبوع  ، وكتاب ” الحجة على الذاهب لتكفير أبي طالب ” / ص 74 ، وكذلك : شرح نهج البلاغة / ج 14 / ص 78 / ط 2 .

وذكر إبن حجر العسقلاني الشافعي في الإصابة ج 7 / ص 112 . البيت الثاني فقط  ، وترك البيت الأول ولعلّه تركه لأنه يثبت إيمان أبي طالب عليه السلام بنبوة ابن أخيه .

قال العلامة نجم الدين العسكري ((  جميع أشعاره عليه السلام قد شهد بحسنها علماء الأدب ، ومن جملتهم ابن كثير ، فقد صرّح بذلك في البداية والنهاية ج 3 ص 57 . وقال : قصيدته عظيمة بليغة جداً ، وهي أفحل من المعلقات السبع ، وأبلغ….. الخ….)) . العلامة نجم الدين العسكري / أبو طالب حامي الرسول / ص39 .

إلى غير ذلك من الأشعار الكثيرة ، من أرادها فعليه بديوانه المطبوع ، أو بعضها فبكتاب الغدير للشيخ عبد الحسين الأميني رحمه الله . ج7 / ص 370 وما بعدها .

الدليل السادس :  عن علي بن الحسين عليهما السلام أنه سُئل عن أبي طالب أكان مؤمنا ؟

فقال عليه السلام : نعم . فقيل له : إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنه كافر  .

فقال عليه السلام : واعجباً كل العجب أيطعنون على أبي طالب ، أو على رسول الله صلى الله عليه وآله وقد نهاه الله أن يقر مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن ؟! ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله عنهما من المؤمنات السابقات فإنها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب رضي الله عنه .

أنظر : ابن أبي الحديد / ج 14 / ص 69 ؛ والسيد شمس الدين فخار / كتاب الحجة / ص 24 .

الدليل السابع والثامن : شِعب أبي طالب ، وما قاله بعد الحصار :
يقول ابن الأثير الجزري: (( فلما فعلت قريش ذلك ، انحازت بنو هاشم وبنو المُطّلب إلى أبي طالب ، فدخلوا معه في شِعبه واجتمعوا ، وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطلب إلى قريش … .
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً ، حتى جهدوا لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سِراً  . )) . التاريخ الكامل/ ج2 / ص59-60 / ذكر أمر الصحيفة ، ط دار الكتاب العربي ، بيروت. ، وانظر كذلك : ابن كثير / البداية والنهاية / ج3 / ص84 / فصل في مخالفة قبائل قريش بني هاشم / ط1/1966م / مكتبة المعارف ، بيروت .

فهل الذي حتى الشعب الذي حمى المسلمين طيلة ثلاث سنين قد تسمى باسمه ، وهو قد كان معهم في الشعب ، ولو كان مشركاً لخرج ، وقد مات بسبب الضيق والحصار لأنه رجل كبير ، هل مثل هذا لم يكن مؤمناً ، إن هذا لهو العجب العجاب .
((  فقال أبو طالب لكفار قريش : إنّ ابن أخي قد أخبرني – ولم يكذبني قط – : أنّ الله سلّط على صحيفتكم الأَرَضَة  فَلَحَسَت كل ما كان فيها من جَور أو ظُلم أو قطيعة رَحِم ، وبقي فيها كل ما ذُكِرَ به الله ، فإن كان ابن أخي صادقاً .. نزعتم سوء رأيكم ، وإن كان كاذبـاً دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه !

قالوا : قد أنصفتنا . فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها ، فإذا هي كما قال رسول الله  صلى الله عليه وآله ، فسُقِطَ في أيديهم ونُكِسوا على رؤوسهم .
فقال أبو طالب : علامَ نُحبس ونُحصر وقد بـان الأمر ! )). ابن سعد الواقدي في طبقاته / ج1 /  ص142-143 / في ذكر حصر قريش رسول الله  صلى الله عليه وآله وبني هاشم في الشعب ؛ وغيره من كتب السيرة .

الدليل التاسع :  وصيته حين موته :

 (( ان أبا طالب – لمّا حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب فقال : لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد ، وما اتّبعتم أمره ، فاتبعوه ، وأعينوه تُرشدوا !)) . كتاب الطبقات الكبرى للواقدي : ج1 / ص78 / باب ذكر أبي طالب وضمه لرسول الله /  ط1325هـ  .

الدليل العاشر : تكفينه وتغسيله بيد علي عليه السلام ، ولأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله :
ذكر الشبلنجي في كتابه نور الأبصار :
(( عن علي رضي الله عنه أنه قال : لما مات أبو طالب أخبرت رسول الله بموته ، فبكى ، ثم قال :

” اذهب فاغسله وكفِّنه وواره ، غفر الله له ورحمه .”

ففعلت ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يستغفر له أياماً ، ولا يخرج من بيته . )) .

البكاء عليه مِن قبل الرسول صلى الله عليه وآله ، ثمّ أمره علياً بتغسيله وتكفينه ، ومواراته .

ثم الإستغفار له ، والدعاء له بالرحمة .

فهل يستحق كل ذلك مشرك ما آمن لا بالله ولا برسوله أن يُفعل به هكذا ، ثم يخيم الحزن على الصادق الأمين فلا يخرج من بيته أياماً .
الدليل الحادي عشر : تسمية العام الذي مات فيه أبو طالب ، وزوجته خديجة الكبرى بعام الحزن :

فهل يحزن رسول الله صلى الله عليه وآله على كافر قد مات ، وقد تخلصت الأرض من كفره وشركه ؟

الدليل الثاني عشر:   يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله خاطب عمه عند الوفاة ، بعد أن رفض التلفظ بالشهادتين :

” أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك ، فأنزل الله تعالى فيه : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين }  .أنظر البخاري ، ومسلماً .
وهذا مكشوف الزيف واضحه ، وذلك :

كما أبان وأظهر هذه الدسائس والأكاذيب المحقق العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني في كتابه الغدير . الغدير ، ج8 / ص9-10 .
إذ يقول فيه إنّ راوي هذا الحديث سعيد بن المسيب ، وهو ممّن ينصب العداء لأمير المؤمنين علي عليه السلام ، فلا يُحتج بقوله  .
ثم ألا ترى أن هذه الآية نزلت بالمدينة { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يَستغفروا للمُشركين ولو كـانوا أُولي قُربى من بعد ما تبيّن لهم أنهم أصحاب الجحيم } براءة / 113 .

وذلك بعد موت أبي طالب بعدّة سنين قد تربوا على ثمانية أعوام ، فكيف نزلت بدعوى قول النبي صلى الله عليه وآله عند وفاة عمه ؟

ثمّ كيف يستغفر له ، وهو مشرك ، وقد كان المؤمنون ممنوعين من موادّة المشركين والمنافقين ، وموالاتهم ؟!

والاستغفار لهم من أظهر مصاديق المودة والمحبة .

فإذاً ما هذا أي كفر أبي طالب عليه السلام إلا من وضع الوضّاع ، وتخرصاتهم وتمنياتهم ليضربوا آل البيت عليهم السلام في الصميم ، لأن صمصامهم قد طاول رؤوس أسيادهم وخلعها .

الدليل الثالث عشر :  قال الإمام الصادق(عليه السلام): « نزل جبرئيل (عليه السلام) على النبيّ(صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمّد ، إنّ ربّك يقرؤك السلام ، ويقول : إنّي قد حرّمت النار على صلبٍ أنزلك ، وبطنٍ حملك ، وحجرٍ كفلك ؛ فالصلب صلب أبيك عبد الله بن عبد المطّلب ، والبطن الذي حملك آمنة بنت وهب ، وأمّا حجر كفلك فحجر أبي طالب . » . الشيخ الكليني / الكافي / ج1 / ص446 . وكذلك انظر : ابن أبي الحديد في الشرح (ج 3 ص 311 ط 1) و (ج 14 ص 67 ط 2) ؛ وكذلك السيوطي ولكنه ذكره عن ابن الجوزي بسنده عن علي مرفوعاً  / التعظيم والمنة / ص25 .

الدليل الرابع عشر :  دليل لا زال حيّاً :

لا زال يصرخ بعظمة هذا الرجل وعلو شأنه : فمن حقك أن تسأل أين قبر أبي طالبٍ ؟

ولكن قف ! سل عن قبر خديجة الكبرى عليها السلام أولاً .

ولتعلم ، ولا أراك تجهل من أن خديجة الكبرى خير نساء الأرض ، قد ماتت في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأبو طالب مات قبلها بأيام ، فأين دفنها زوجها حبيب الله وحبيبها صلى الله عليه وآله ؟

دفنها قرب ، بل بجنب أبي طالب هذا ، فهل رسول الله صلى الله عليه وآله ما أجلها ؟!

وهل أهانها ، بدفنها جوار مشرك ؟ حاشاه ، حاشاه .

وهل حرمها حقها من الدفن في مقابر المسلمين ، حيث دفنها جنب رجل كافر ؟

وكفى بهذا دليلا صادقاً على إيمان هذا الرجل العظيم ، فلعن الله العصبية البغيضة ، والتقليد الأعمى .

وقد سألت في حجتي الأولى رئيس الحرس ( الآمرين .. ) هناك أمام جمع من الناس هذا السؤال فلم يحر جواباً ، وقال اذهب إلى الشيخ عبد الله بن باز في المسجد الحرام ، وسله ، فأجبته : إني لا حاجة لي بجوابه ، بل اذهب أنت وسله .

الدليل الخامس عشر :  دليل خاص لا يُلزَم به إلا أهل الفهم والفِطَن ، ممن يعرف مقام أمير المؤمنين عليه السلام :

الله سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وآله ” ورفعنا لك ذكرك ” وقد ذهب المفسرون أن اسمه الشريف قد ارتبط باسم سيده وخالقه أينما ذكِر ، وهذا هو رفع ذِكْرِهِ صلى الله عليه وآله .

هذا المعنى اللطيف نذكره هنا لهذا الرجل فعلي هو أمير المؤمنين ويعسوب الدين وإمام المتقين عندما تذكره لابد من أن تقول علي بن أبي طالب ، في جلِّ المواطن لو لم يكن كلها ، فلولا كونه عالي الدرجات لما التصق اسمه باسم هذا العبد الصالح التصاقاً تاماً ، فتفكّر فيه .

الدليل السادس عشر : بعد تلك الأدلة نقدم دليلاً جامعاً لذوي البصيرة ، قد قدمه العلامة نجم الدين العسكري في كتابه ” أبو طالب حامي النبي ” ، حيث تساءَل : (( هل بعد ما مر عليك من التصريحات في الشعر والنثر بأن محمداً صلى الله عليه وآله رسول الإله ، ونبي مرسل من الله جاء بالدين الصحيح ، والشريعة الواضحة ، والحق المبين الجلي من الواحد الأحد العلي ، وبعدما سمعه من الأحبار والرهبان ، ومن أبيه عبد المطلب عليه السلام ، يبقى مجال للترديد أو التوقف أو الشك في إيمان حامي الرسول الباذل له نفسه ونفيسه في سبيل الدين أبي طالب عليه السلام ؟! )) . ص26 ــ27 .

والدليل الأخير ، لا الآخِر :

فبعد هذه الأدلة الواضحة هل نحتاج لدليل آخر يدل على إيمان هذا الرجل العظيم عليه السلام ، الذي لولاه لما بقي رسول الله صلى الله عليه وآله حياً حتى قوي عود الرسالة ، وانتشرت في الأرض ، يقول الذهبي في تاريخه : (( وثبتْ كلُّ قبيلةٍ على مَن أسلم منهم يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم ، فمنع اللهُ رسولهُ (ص) بعمّهِ أبي طالب . )) . تاريخ الذهبي / ج1 / ص162 .

ويبينه قول اليعقوبي في تاريخه : (( فلما علمت قريش أنهم لا يقدرون على قتل رسول الله ، وأنّ أبا طالب لا يسلمه…كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة ألا يبايعوا أحداً من بني هاشم ، ولا يناكحوهم ، ولا يعاملوهم حتى يدفعوا إليهم محمداً فيقتلوه ! وتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا ، وختموا على الصحيفة بثمانين خاتماً…..)) . تاريخ اليعقوبي / ج2 / ص31 .

حتى أنّ ذاك المتوقف في أمر أبي طالب وأقصد به ابن أبي الحديد . قال : ((…….فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة . وأعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة .. ))

كتب :

ولو لا أبو طالب وابنه لما مثل الدين شخصاً فقاما

وما ضرّ مجد أبي طالبٍ       جهولٌ لغا أو بصيرٌ تعامى

كما لا يضر إياة الصبا ح     مَن ظنّ ضوء النهار الظلاما

)) .  إبن أبي الحديد / الشرح / ج14 / ص[ 84 ] . فبربك هذا الذي لولاه لما قامت للإسلام دعامة ، وهذا الذي حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة  ، على حد قوله في كليهما ، يتركه ربه للموت كافراً ؟ فأين ذهب قوله : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان .

فلعن الله العصبية ، التي تعمي عين البصير الناقد ، والعالم الصاعد .

ثم نأتي لهذا الدليل من زاوية أخرى فنقول إنّ الله تعالى يقول في محكم كتابه (( مَن قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرضِ فكأنّما قتلَ النّاسَ جميعاً ومَن أحياها فكأنّما أحيا النّاسَ جميعاً )) . المائدة 32 .

فكيف بمن أنقذ نبيَّ الله وخير خلق الله في عدة مواطن ؟!

سل نفسك وأجِبْ ، بلا تقليد أعمى وبليد ، لتكتشف الحق من الباطل .

فإذاً هو ممّن آمن باطناً وصادقاً ، وكانت قريش تظن أنه على دينها لأنه لم يصدح بكونه قد آمن بمحمد صلى الله عليه وآله ، ولم يُصرِّح ، بل بقيَ هكذا حفاظاّ منه على سيد الرسل وخير خلق الله صلى الله عليه وآله ، فإذا كان مؤمن آل يس قد أخفى إيمانه ، و أظهر الكفر للحفاظ على ما حافظ عليه ، فكان في هذا المقام المعلوم عند الله تعالى بحيث أنزل فيه قرآناً يُتلى ، وهكذا أصحاب الكهف ، فكيف لا يحسن من شيخ البطحاء أن يخفي إيمانه للحفاظ على محمد بن عبد الله خير خلق الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!!!!!

وهو قد فعل ، ولكن لعن الله الحقد على آل الرسول ، والعصبية ضدهم .

وبهذا جاءت الرواية ففي أصول الكافي خرّج الشيخ رحمه الله تعالى بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف ، أسرّوا الإيمان وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسرَّ الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين . )) . أصول الكافي / الكليني / ص 244 ؛ وكذلك انظر : إبن أبي الحديد المعتزلي / شرح نهج البلاغة / ج 3 / ص 312 / ط 1 ؛ ج 14 / ص 7 / ط 2 ؛ والسيد شمس الدين فخار / كتاب (الحجة) / ص 17 / ط 1 . وقريب منه : الإختصاص / الشيخ المفيد / ص242 .

والحمد لله رب العالمين .